كل ما تريد معرفته عن مرض التوحد
يعتقد الكثيرون بأن التوحد هو نوع من الانعزال الإجتماعي، أو ربما شكل من أشكال التخلف العقلي. قد ينبع ذلك من قلة المعلومات المتوفرة عنه في المصادر العربية، إضافة إلى تسميته بالتوحد، والتي قد تعطي انطباعاً خاطئاً عن ماهية هذا المرض. التوحد (أو الذاتوية، كما اقترح البعض تسميته) اضطرابٌ ليس بالبسيط، ومدى فهمنا له لا يزال قاصراً إلى حد بعيد، إلا أنني سأحاول من خلال هذا المقال أن أشرحه بشكل مبسط ودقيق في آنٍ معاً.
ما هو التوحد؟ (Autism)
اضطراب الطيف التوحدي (Autism Spectrum Disorder) هو مرضٌ في الدماغ يظهر في الطفولة المبكرة، ويتميز بمشاكل في الإتصال الاجتماعي، وخللٌ جسيم في مهارات التواصل، وتصرفات واهتمامات ونشاطات متكررة ومقيدة.
أعراضه
هناك بعض الملامح المرتبطة بالسلوك والتطور النَمائي التي تدل على وجود هذا المرض عند الطفل، ومنها:
- التراجع في النمو.
- غياب القدرة على التأشير على الأشياء (كدليلٍ على اهتمام الطفل بشيء ما).
- ردات فعل غير طبيعيةٍ على المحفزات الحسية في بيئة الطفل.
- تفاعلات اجتماعية غير طبيعية.
- عدم الابتسام عند رؤية الوالدين أو الأشخاص المعروفين لدى الطفل.
- غياب ردات الفعل المعتادة على الألم أو الأذى الجسدي.
- التأخر والانحراف في اللغة والكلام.
- القابلية العالية للإصابة بالالتهابات والأمراض الحُميّة.
- غياب القدرة على اللعب الرمزي (كأن يمثّل الطفل بأنه يتحدث بالهاتف عن طريق لعبة من ألعابه، مثلاً).
- السلوك النمطي والمتكرر. (فمثلاً قد يظهر الطفل انهماكاً شديداً في ترتيب ألعابه بشكل معين، ولفترات طويلة في اليوم).
تبدأ الأعراض بالظهور قبل سن الثالثة. ومن المهم جداً إجراء فحص دوري للرضع والأطفال؛ لأنه يسمح بالتشخيص والعلاج المبكر. أشقاء الأطفال المصابين بالتوحد عرضة أكثر من غيرهم ليصبح لديهم بعض من صفات هذا المرض، أو حتى ليُشخّصوا به. لذلك، فإن أشقاء المصابين بهذا الاضطراب يجب فحصهم ليس فقط لأعراض التوحد، ولكن أيضاً لأي مشاكل اجتماعية أو لغوية، أو صعوبات في التعلم، أو لأعراض القلق أو الاكتئاب.
على الرغم من أن كثيراً من المصابين بالتوحد يعانون من انخفاضٍ طفيف في مستوى الذكاء، إلا أن نسبة لا بأس بها منهم ذوي ذكاء طبيعي، وأحياناً قد تكون أعلى من المعدل المعتاد.
الاضطرابات الحركية
تُعتبر اضطرابات الحركة علامة مميزة عند كثير من الأطفال المصابين بالتوحد، وقد تكون موجودة منذ الولادة عند البعض منهم. ملاحظة وتحليل حركة الطفل الصغير قد تعطينا مؤشرات مبكرة عن حدوث هذا المرض قبل ظهور بقية الأعراض.
غالبا ما تكون الاضطرابات الحركية عند هؤلاء الأطفال واضحة ومميزة. من الأمثلة على تلك الحركات، أن يقوم الطفل بمد يده أمام وجهه، مباعداً بين أصابعه، ومن ثم تحريك يده إلى وجهه وبعيداً عنه. فعلٌ مثل هذا يُوصف بأنه محفز للذات لأنه ينتج إحساساً بصرياً بالحركة.
كثير من الحركات التي يقوم بها أطفال التوحد هي محاولات تهدف إلى تزويد أنفسهم بمحفزات حسية في بيئة تخلو منها. يمكن تعليم الأطفال، من خلال وسائل التعليم الخاص، أن يتوقفوا عن هذه الحركات، إلا أنها قد تعود للظهور في أوقات الإجهاد النفسي أو الإثارة.
ما الذي يسبب التوحد؟
يميل التوحد لأن يتكرر ضمن العائلات، حيث ترتفع نسبة حصوله إلى أكثر من الضعف في حال كون أحد الأشقاء مصاباً به، لذلك يعتقد العلماء بأن الجينات قد تلعب دوراً مهماً في تطور هذا المرض. بعض الدراسات الأخرى تظهر دوراً لبيئة الطفل في تطور التوحد، كالتعرض لبعض المواد الكيميائية أو الأمراض الجسدية (فقد لاحظ العلماء ارتفاعاً في نسبة التوحد عند الأطفال الذين يصابون بالسُل الرئوي في الصغر، كما أن هناك كثيراً من الأطفال المصابين بالتوحد يعانون من اضطرابات في الجهاز الهضمي). بعض الدراسات في علوم الأعصاب، عن طريق استعمال التصوير الطبقي للدماغ، أظهرت اختلافات جلِيّة عند هؤلاء الأطفال في التشابكات العصبية، خاصة في المناطق الصدغية والجدارية من الدماغ (والتي تلعب دوراً أساسياً في اللغة والتواصل الاجتماعي).
دار كثير من اللغط حول دور التطعيمات (اللقاحات) في تطور التوحد، وظهرت حركات ذات طابع ديني واجتماعي على الأغلب، خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، لتشجيع الناس على رفض تطعيم أبنائهم، وذلك بناءً على نتائج بحث واحد أصدره طبيبٌ أمريكي منذ عدة سنوات. تم إثبات خطأ هذا البحث قطعاً من خلال دراسات طبية وعلمية موسعة على عدد كبير من الأطفال حول العالم، و على مدى عدة سنوات. علاوة على ذلك، فإن إصابة الأم بالحصبة الألمانية أثناء الحمل قد تتسبب في إصابة طفلها بالتوحد؛ لذلك ينصح بتطعيم الأمهات ضد الحصبة الألمانية أثناء الحمل.
عمَّ يبحث الطبيب ليشخص هذا المرض؟
توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (American Academy of Pediatrics) بفحص الأطفال في زياراتهم الدورية للكشف عن أي مشاكل في نموهم ومهاراتهم الاجتماعية ونشاطاتهم اليومية، مما يزيد فرص نجاح العلاج ويقلل من الآثار السلبية للمرض حال اكتشافه.
إذا اكتشف الطبيب أي خللٍ أو تأخر في التطور النمائي للطفل، يُحوّل الطفل إلى طبيب أخصائي في طب الأطفال النمائي، أو طبيب نفسي (خاصة من يختص بالطب النفسي للأطفال)، أو معالج نفسي.
يقوم الطبيب بإجراء العديد من الفحوصات النفسية والطبية للطفل. يبدأ الطبيب بإجراء فحص مكثف للتاريخ المرضي والنمائي للطفل، وفحوصات عامة للدم والبول وغيرها من الفحوصات الطبية. تُجرى في العادة الفحوص الشعاعية، خاصة في حال وجود نوباتٍ تشنجية. يتم فحص الكروموسومات أيضاً، ذلك أن بعضاً من الأمراض الكروموسومية، كمتلازمة كروموسوم X الهش (Fragile X Syndrome)، والتي على الرغم من أنها مرتبطة بهذا المرض إلى حد ما، إلا أن معظم مرضى التوحد لا يظهرون أي اضطرابات كروموسومية أو خلقية جسدية. في بعض الأحيان، يفحص الأطباء مستوى الرصاص في الدم، خاصة للأطفال الذين يعيشون في بيئة معرضة لهذا المعدن الثقيل، والذي قد يسبب أعراضاً توحدية.
ما مدى انتشاره؟
تُقدر النسب العالمية للإصابة بالتوحد بـ10-15 لكل 10 آلاف نسمة (أي حوالي شخص واحد لكل ألف شخص). نسبة الذكور المصابين بالتوحد تفوق نسبة الإناث بضعفين إلى خمسة أضعاف، ونسبة المرض في اليابان هي أعلاها في العالم.
يرجع البعض ذلك إلى التطور الكبير في الطب والكشف المبكر عن المرض في اليابان، إلا أن البعض الآخر يرى أن الاستهلاك الكبير للمأكولات البحرية في الثقافة اليابانية، والذي يرتبط بحصول التهابات في الجهاز الهضمي، قد يلعب دوراً في تطور التوحد.
كيف يُعالَج؟
بما أن هناك تفاوتاً في الأعراض بين المصابين بالتوحد في الشدة والتصرفات، فإنه يُنصح بتخصيص طرق العلاج لتناسب احتياجات وتفرد كل طفل. لكن، وبشكل عام، فإن هناك بعض القواعد الإرشادية التي يُنصح باتباعها لتحقيق أكبر فائدة وتحسن ممكنين.
1. التدريب السلوكي:
يُستعمل هذا النوع من العلاج التعزيز الإيجابي، ومساعدة الذات، والتدريب على المهارات الاجتماعية، لتحسين سلوكهم ومهارات الاتصال لديهم. تم تطوير الكثير من العلاجات في هذا المجال ومنها العلاج الجسدي والوظيفي وعلاج النطق.
يساعد العلاج بالنطق الطفل على تحسين مهاراته الكلامية، ويساعده على التواصل بشكل أفضل مع الآخرين. أما العلاج الوظيفي والجسدي، فقد يسهم بشكل كبير في تحسين أي خلل في التناسق والمهارات الحركية. يساعد العلاج الوظيفي الطفل أيضاً في فهم وتفسير المحفزات الحسية (البصر والسمع واللمس والشم والتذوق) بشكل أفضل.
2. العلاج الدوائي:
قد يلجأ الطبيب إلى استعمال بعض العلاجات الدوائية للسيطرة على بعض الأعراض المترافقة مع التوحد، كالإكتئاب والقلق وفرط النشاط والسلوك القهري.
3. الدعم الأسري والمجتمعي:
عن طريق الإشتراك فى مجموعات الدعم لأسر مصابي التوحد، وتوفير بيئة أسرية مناسبة وداعمة للطفل.
في النهاية لا بد من القول أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الأهل لملاحظة أي سلوكيات غير معتادة على أطفالهم، والحرص على زيارة الطبيب بشكل منتظم لضمان أقصى قدر من الاستجابة للعلاج.
تعليقات